جريمة التسميم في القانون المغربي
تُعدُّ جريمة التسميم من أشنع الجرائم التي تستهدف الحق في الحياة، وقد أولاها المشرع الجنائي المغربي أهمية قصوى، وخصَّها بتنظيم مستقل كجريمة قائمة بذاتها، وأفرد لها عقوبةً صارمة وقاسية تتمثل في الإعدام. يتجلى ذلك بوضوح في نص الفصل 398 من القانون الجنائي المغربي[¹]، الذي ينص صراحةً على أن: "مَنْ اعتدى على حياة شخص بواسطة مواد من شأنها أن تسبب الموت عاجلًا أو آجلًا، أيًّا كانت الطريقة التي استُعمِلت أو أُعطيت بها تلك المواد، وأيًّا كانت النتيجة، يُعد مرتكبًا لجريمة التسميم ويعاقب بالإعدام".
ويعود أساس تشديد عقوبة جريمة التسميم إلى الإعدام إلى عدة اعتبارات جوهرية. أوّلها، ما تنطوي عليه الوسيلة المستعملة من غدر وجبن لا مثيل لهما في صور القتل الأخرى، لا سيما وأنها تُرتكب عادةً بيد من تطمئن إليه الضحية، مما لا يترك لها مجالًا لاتخاذ الحذر أو الاحتياط. ثانيها، إلى كون هذه الجريمة، بقدر ما تتسم به من سهولة في التحضير والتنفيذ، تكتنفها صعوبات جمة في الإثبات، مما يجعل كشفها ومعاقبة مرتكبيها أمرًا معقدًا[²].
وسيتناول هذا المقالُ هذه الجريمة انطلاقاً من ثلاثةَ محاورَ أساسيةٍ لإجلاء الغموض عن جوانبها المختلفة، وذلك على النحو الآتي:
- تعريف جريمة التسميم.
- أركان جريمة التسميم (الركن المادي والمعنوي).
- المحاولة في جريمة التسميم.

تعريف جريمة التسميم
بناءً على مقتضيات الفصل 398 المذكور أعلاه، تُعرّف جريمة التسميم بأنها كل فعل عمدي يمس بحياة الغير، ويتمثل في إعطاء أو استعمال مواد قاتلة، سواء كان تأثيرها عاجلًا أو آجلًا، وبغض النظر عن الكيفية التي استُخدمت بها هذه المواد أو الوسيلة التي أُعطيت بها، وأيًّا كانت النتيجة المترتبة على ذلك الفعل الإجرامي. وبالتالي، فإن مرتكب هذه الجريمة يُعد مستهدفًا حياة الشخص الضحية بقصد إزهاق روحه، ويُعاقب عليها بالإعدام.
أركان جريمة التسميم
تتطلب جريمة التسميم لتحققها توافر ركنين أساسيين: ركن مادي وركن معنوي. فبالنسبة للركن المادي، فإنه يتميز بخصوصيةٍ لافتة، إذ لا يُشترط فيه بالضرورة تحقق النتيجة الإجرامية (الموت) لقيام الجريمة. بل يُكتفى فيه بمجرد وقوع فعل التسميم نفسه، والمتمثل في إعطاء المجني عليه مادة سامة من شأنها إحداث الوفاة.
أما الركن المعنوي، فيتجلى في القصد الجنائي الخاص؛ أي أن ينصرف قصد الجاني إلى إزهاق روح المجني عليه تحديدًا. ويتحقق ذلك بتوافر عنصرين رئيسيين: أولهما، أن يُقدم الجاني على إعطاء المادة السامة وهو يَعلَم تمام العلم بكونها قاتلة بطبيعتها، سواءً كان تأثيرها فوريًا أو متأخرًا. وثانيهما، أن تَتَّجه إرادته إلى قتل المجني عليه بهذه المادة.
الركن المادي في جريمة التسميم
لا يُشترط لتحقق الركن المادي في جريمة التسميم وفاةُ الضحية بالسُّم، وإنما يكفي، طبقًا لمقتضيات الفصل 398 من القانون الجنائي المغربي، استعمالُ أو إعطاءُ مادة سامة لشخص تكون من شأنها أن تُسبب الوفاة عاجلاً أو آجلاً.
ويُلاحَظ أن المشرّع لم يُحدّد طبيعة المواد التي يُفترض استعمالها أو إعطاؤها للضحية، كما لم يحصرها. لذلك، يستوي أن تكون تلك المواد نباتيةً أوحيوانيةً أو معدنيةً، صلبةً أو سائلةً غازيةً[³] أو مُشِعّة. ومع ذلك، يُفهم من عبارة المشرّع: "مواد من شأنها أن تسبب الموت" أن الأمر مشروط بكون المادة سامة وقاتلة. كما يستوي أن يكون مفعولها سريعًا (في الحين) أو بطيئًا (بعد حين)، وهو ما عبّر عنه المشرّع بعبارة: "عاجلاً أو آجلاً".
ثم إن العِبرة في تقدير سُمّية المادة، في نظرنا، ليست بطبيعتها فحسب. ذلك أنه يمكن اعتبار استعمال أو إعطاء مواد غير سامة بطبيعتها بتركيز عالٍ للضحية، أو مواد غير مناسبة له، بمثابة تسميم متى كان القصد من هذا الاستعمال أو الإعطاء قتله، وبغض النظر عن موت الضحية حالاً أو مستقبلاً.
ويُعدّ تحديد ما إذا كانت المادة سامة أم ضارة مسألةً واقعيةً يستقل قضاةُ الموضوع بتقديرها، وذلك على ضوء تقرير الخبرة العلمية المأمور بإجرائه. ومن واجبهم، في هذه الحالة، التحوّطُ الشديدُ من مُخرجات الخبرة، مع استحضار وجود الاختلافات العلمية بين علماء السموم، وقصور بعض المناهج العلمية المتبعة في هذا الشأن[⁴]. هذه الحيطة تضمن تطبيقًا قضائيًا دقيقًا وعادلاً للقانون.
وينبغي، في النوازل المعروضة على القضاء، التحديد الدقيق لما إذا كانت المادة سامة وتندرج ضمن مقتضيات الفصل 398 من القانون الجنائي الخاص بجريمة التسميم، أو ما إذا كانت مادة ضارة بالصحة العامة طبقًا لمقتضيات الفصل الأول من ظهير 29 أكتوبر 1959، أو مجرد مادة ضارة بالصحة تسري بشأنها الفصول 413 و 414 من القانون الجنائي.
الركن المعنوي في جريمة التسميم
لا تقوم جريمة التسميم، بوصفها جريمة عمدية، إلا بتوافر القصد الجنائي الخاص لدى الفاعل. يتجلى هذا القصد في عزمه على الاعتداء على حياة الضحية، مع علمه اليقيني بأن المادة الضارة التي ينوي إعطاءها أو استعمالها من شأنها أن تسبب موت إنسان عاجلًا أو آجلًا.
وقد أكد المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليًا) في هذا الإطار أن اكتفاء المحكمة بالتنصيص في حكمها على أن المادة المستعملة أو المعطاة هي مادة مُبيدة للحشرات، دون بيان ما قد ينتج عنها في حالة استعمالها من طرف الإنسان، يجعل قرارها ناقص التعليل الموازي لانعدامه، وبالتالي معرضًا للنقض والإبطال[⁵].
وعليه، إذا انتفى القصد الجنائي لدى الفاعل، انتفت كذلك مسؤوليته الجنائية عن جريمة التسميم. وكمثال على ذلك، ينتفي القصد الجنائي في الحالات الآتية:
- خطأ الفاعل أو وقوعه في الغلط: عندما يحدث خطأ غير مقصود من الفاعل عند استعمال أو إعطاء المادة للضحية.
- جهل الفاعل بسُميَّة المادة: عندما لا يكون الفاعل على علم بأن المادة التي استعملها أو أعطاها للضحية سامة بطبيعتها.
- استخدام الفاعل بطرق تدليسية من الغير: عندما يُستخدم الفاعل كوسيط في تسميم الضحية دون علمه بالقصد الجنائي الحقيقي للغير.
ولما كانت الحالات أو الأسباب المذكورة تؤدي إلى هدم ركن القصد الجنائي وانتفاء المسؤولية عن الفاعل كمرتكب لجريمة التسميم، إلا أن إمكانية مساءلته عن جرائم غير عمدية تظل قائمة، وذلك على النحو التالي:
- القتل الخطأ: يُطبق هذا الوصف المنصوص عليه في الفصل 432 من القانون الجنائي، إن حدثت الوفاة نتيجة لخطأ الفاعل، كالإهمال أو عدم التبصر.
- الإيذاء الخطأ: ينطبق هذا الوصف، وفقًا للفصل 433 من القانون الجنائي، إذا كان استعمال أو إعطاء المادة السامة للشخص الضحية عن طريق الخطأ بجميع صوره، مثل عدم التبصر، عدم الاحتياط، أو الإهمال.
ولاستنباط تحقق قصد الاعتداء على حياة الشخص الضحية (أي نية القتل) عند الجاني، لا بد من التأكد من علم هذا الأخير بسُميَّة المواد التي قام باستعمالها أو إعطائها للضحية، ما لم يثبت العكس.
المحاولة في جريمة التسميم

تقوم جريمة التسميم، وفقًا لمقتضيات الفصل 398 من القانون الجنائي، كجريمة تامة بمجرد إعطاء المواد التي من شأنها أن تُسبِّبَ الموت، عاجلاً أو آجلاً، للشخص الضحية. وتتحقق بصرف النظر عن حدوث الوفاة فعلاً، فهي بذلك من الجرائم الشكلية التي لا تقتضي بالضرورة توافر النتيجة الإجرامية (الموت).
وبالرجوع إلى الفصل 114 من القانون الجنائي[⁶]، نجد أن محاولة التسميم قد تتحقق في صورة "الجريمة الموقوفة"[⁷]، أي إذا ما أوقف الفاعل إتمام فعله الإجرامي بسبب تدخل عامل أجنبي خارج عن إرادته[⁸]. على سبيل المثال، إذا أقدم الجاني على تحضير فنجان قهوة للضحية ووضع فيه مادة قاتلة، ثم حدثت ظروف خارجة عن إرادة المتهم بفعل تدخل خارجي، كتحذير شخص أجنبي (شاهد) للضحية من تناول القهوة، فإن الفعل الذي أتاه الجاني هنا يُشكِّل جناية محاولة التسميم لعدم حصول النتيجة الإجرامية.
ولما كانت محاولة التسميم لا تتم إلا بعقد العزم على إعطاء المادة السامة للشخص الضحية بنية القتل، وتدخل سبب أجنبي حائل دون إتمام الجريمة؛ فإن مجرد اقتناء أو إعداد أوحيازة المادة السامة انتظارا لفرصة تقديمه أو استعماله (البدء في التنفيذ) لا تعتبر محاولة تسميم موجبة للعقاب، على أساس أنها من الأعمال التحضيرية التي يمكن أن تدخل في وصف آخر موجب للعقاب[⁹].
كما أن العُدُول الطّوعي (الاختياري) عن إعطاء المادة السامة للضحية، والذي قد يتمثل في قيام الجاني بإتلاف الطعام أو الشراب أو الدواء المسموم قبل تناوله من قِبل الضحية، أو في حالة تدخله المباشر وحَيلولته دون تناول هذا الأخير للمادة القاتلة التي قام بتحضيرها، تنتفي معه الجريمة[¹⁰].
على النقيض من ذلك، فإن العدول الطوعي الذي يحدُث بعد إعطاء السُّمّ للضحية، والذي يتبعه الحيلولة دون تحقيق النتيجة الإجرامية - كإنقاذ الضحية أو إتيان أي فعل يُعبِّر عن توبة الجاني أو ندمه - ليس له أدنى أثر من الناحية القانونية فيما يخص قيام جريمة المحاولة. ومع ذلك، يمكن للمحكمة أن تعتبره دليلاً على انتفاء الخطورة الإجرامية وسببًا لتمتيع الجاني بظروف التخفيف[¹¹].
وفي الختام، لا بد من التذكير بأن فهم الخصوصيات المميزة لـجريمة التسميم يتطلب الاستعانة بالدراسات المعمقة في حقل علم الإجرام. هذه الدراسات تسهم في تحليل شخصية المجرم، والباعث على الجريمة، والأسلوب الذي يتم به تنفيذها، مما يوفر رؤى قيّمة لاستكمال الصورة القانونية لهذه الجريمة الخطيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
❐ الهامش:
¹- مجموعة القانون الجنائي، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.59.313 في 28 جمادى الثانية 1382 (26 نونبر 1962)، الجريدو الرسمية عدد 2640 مكرر بتاريخ 12 محرم 1383 (5 يونيو 1963) الصفحة 1253.
²‐ عبد الحفيظ بلقاضي، القانون الجنائي الخاص المغربي، طبعة رقمية خاصة لسنة 2020، الصفحة 174.
³- عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم الخاص، الصفحة 289.
⁴- عبد الحفيظ بلقاضي، القانون الجنائي الخاص المغربي، طبعة رقمية خاصة لسنة 2020، الصفحة 176.
⁵- قرار المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا)، عدد: 1054/1، المؤرخ في: 2006/07/12، ملف عدد: 20763/2003.
⁶- ينص الفصل 114 من مجموعة القانون الجنائي على أنه: "كل محاولة ارتكاب جناية بدت بالشروع في تنفيذها أو بأعمال لا لبس فيها، تهدف مباشرة إلى ارتكابها، إذا لم يوقف تنفيذها أولم يحصل الأثر المتوخى منها إلا لظروف خارجة عن إرادة مرتكبها، تعتبر كالجناية التامة ويعاقب عليها بهذه الصفة".
⁷- لا تتصور محاولة جناية التسميم أن تأتي في صورة الجريمة المستحيلة أو الخائبة.
⁸- بعبارة أخرى، وحسب القواعد العامة، يلزم لقيام المحاولة أو الشروع في الجريمة اقتران البدء في التنفيذ بانعدام العدول الاختياري.
⁹- عبد الحفيظ بلقاضي، القانون الجنائي الخاص المغربي، طبعة رقمية خاصة لسنة 2020، الصفحة 177.
¹⁰- عبد الحفيظ بلقاضي، القانون الجنائي الخاص المغربي، طبعة رقمية خاصة لسنة 2020، الصفحة 178.
¹¹- عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم الخاص، الصفحة 294.
ミ شكرًا جزيلًا لتفضلك بقراءة هذا المقال. نأمل أن يكون قد أثرى معرفتك وأضاف إليها جديدًا. ندعوك لمشاركة أفكارك وتساؤلاتك في قسم التعليقات أدناه، فرأيك يثري الحوار ويهمّنا جدًا. لا تتردد في مشاركة المقال مع من ترى أنه قد يستفيد منه.
إرسال تعليق على: "جريمة التسميم في القانون المغربي"
✍ شَارك رأيك ⌨ مع مُجتمع مركز القانون العربي 🎯
☜ يُرجى الالتزام بقواعد التعليقات ⚠. التعليقات التي تحتوي على إساءة أو تشهير أو دعاية أو محتوى مسيء لن يتم نشرها بعد المراجعة اليدويّة.